ديفاياني كلارك
September 2025
4 min read
تُقدِّر اليونيسف أن أكثر من 500 مليون امرأة وفتاة حول العالم لا تتوافر لهن مستلزمات الدورة الشهرية ويفتقرن إلى المرافق الملائمة للعناية بنظافتهن أثناء فترة الحيض (.(Patel, 2022; World Bank, 2025 وفي منطقة الشرق الأوسط، غالبًا ما تغيب الفوط الصحية عن قوائم المساعدات الإنسانية، رغم أنها لا تقل أهمية عن الطعام ذاته.
حين تصل شاحنات الإغاثة إلى غزّة، تصطف بسمة في الطابور مثلها مثل الجميع. الصناديق دائمًا تحمل الأشياء ذاتها: أرز. دقيق. زيت طهي. فاصوليا معلبة. ضروريات تحتاجها أسرتها بشدة لتواصل البقاء على قيد الحياة. غير أنّ عينيها تلتقطان أيضًا ما هو مفقود. لا فوط صحية. لا صابون.
همست في داخلها: “لعل الإغاثة تقتصر على الطعام فقط”. ربما لا يتوقّع أحد أكثر من ذلك. لا أحد يسأل عن النساء أو يفكّر بالفتيات. وليس ذلك أمر جديد، بل مجرد استمرار لما اعتاد عليه الجميع.
في المأوى، تلجأ بسمة إلى ما تجده أمامها. تمزق الملابس البالية إلى شرائط، وتربطها بعُقد حتى تثبت في مكانها. أقمشة خشنة تؤلم بشرتها وتزيد من معاناتها. وفي حرّ المأوى المزدحم، يتسرّب العرق إلى ثيابها. وهذه الخِرَق مهما غُسلت بالماء، لا تصبح نظيفة أبدًا. الحرارة والرطوبة تعيدان إليها تلك الرائحة المعدنية المألوفة التي تلازم دورتها كل شهر. الرائحة لا تفارقها حتى وهي جالسة بلا حراك في الزاوية.
حتى الجلوس بلا حركة لا ينقذها. تختلف الأقمشة في قدرتها على الامتصاص، فلا تعرف أبدًا متى ستخونها إحداها وتسرب ما بداخلها. كل حركة من جسدها تحمل معها خطرًا جديدًا. تتفادى الناس، لا خجلًا فحسب، بل خوفًا أيضًا.
خوفًا من أن يتسرب الدم.
خجلًا من أن يخونها جسدها.
خوفًا من أن يترك أثرًا ظاهرًا.
خجلًا من أن يكتشف الآخرون سرّها.
انسَ المدرسة. فالكتب والدروس لا تعني شيئًا حين تعجز عن الوثوق بجسدها. تبقى ساكنة، مسمّرة في مكانها خوفًا من تسرب الدم، من بقعة قد تظهر فجأة، أو من أن يكشف سرها أمام الأعين.
ورغم أن جسدها يقوم بما خُلق لأجله، تشعر بسمة أنه عيب. تشعر أنها هي المشكلة. عبء آخر فوق عالمٍ يترنّح أصلًا تحت وطأة الحرب.
تغلق بسمة عينيها. وتغوص في خيالها فتلمح كثيبًا وحيدًا عند الأفق، تمتد خلفه درجات ناعمة تتدرج بين الوردي والبرتقالي والأزرق. يقترب الكثيب ببطء. ومع كل نبضة من قلبها، تقفز حدوده الخارجية كنبض على شاشة جهاز مراقبة القلب. ينبض بالحياة على إيقاع قلبها.
يخفق بقوة. يتلألأ الكثيب. بوم… بوم. يتحرك من جديد. وسرعان ما بدأ يتراقص على إيقاع قلبها. هي ما زالت في جسدها، ما زالت تتنفس، لكن الكثيب بدا وكأنه جزء لا يفارقها.
ثم تغير كل شيء فجأة. في لحظة، تشعر بصعود صدرها وهبوطه. وفي اللحظة التالية، تشعر وكأنها انفصلت تمامًا عن جسدها. وجدت نفسها داخل الكثيب النابض نفسه، بلا وزن، حرة تمامًا. لا ألم، لا رائحة، لا خوف. فقط شعور بالتحليق بعيدًا.
السكينة تحيط بها من كل جانب، كحجابٍ دافئ وثابت يحميها من كل شيء. تنسى الخِرَق البالية والطوابير الطويلة، تنسى الصمت والخجل. أصبحت وكأنها طيف، متحررة بلا قيود. تغمرها لحظة صفاء مطلق، فتنساب في هدوء عميق.
ثم تفتح عينيها. مثل السقوط في حلم عابر، تعود بسمة إلى المأوى. تعود إلى الحرّ والضجيج. إلى الواقع الذي لم يتغير.
ملايين الفتيات في مناطق النزاع حول العالم يواجهن كل شهر تحديات صامتة، مُجبَرات على إدارة دوراتهن الشهرية بلا كرامة (UNFPA, 2024). في أماكن تُختبر فيها الحياة والموت كل يوم، تتحوّل أبسط الأمور-كالدورة الشهرية- إلى جرحٍ آخر، وعيبٍ آخر يثقل كاهلهن.
تقدّر اليونيسف أنّ أكثر من 500 مليون امرأة حول العالم يفتقرن إلى المرافق الملائمة للعناية بنظافتهم أثناء الحيض، وتشير الدراسات إلى أن الفتيات قد يفوتن ما يصل إلى 20% من أيام الدراسة سنويًا بسبب التحديات المتعلقة بالدورة الشهرية (Adane et al., 2025; World Bank, 2016).
تتلاشى لحظة السكون التي عاشتها بسمة، ويستمر اليوم كما هو. وتمر المعاناة الصامتة لفقر الدورة الشهرية دون أن يلتفت إليها أحد. لكن قصة بسمة تذكّرنا أن الكرامة لا تقل أهمية عن المأوى والطعام.